عابد سيد أحمد يكتب: ورطة الأعيسر!!
مقالات الرأي

عندما عُيّن الأستاذ خالد الأعيسر وزيراً للثقافة والإعلام، وهو في قمة توهجه الإعلامي وقدراته الفائقة في مقارعة الخصوم عبر القنوات العالمية، ناشده الكاتب الجريء محمد عثمان الرضي يومها ألا يقبل بالمنصب. كان الرضي يخشى أن يخسر الوطن شخصيةً أفيد له في مرافعاته المزلزلة للمليشيا أمام أعين العالم، مقابل الانخراط في العمل الديواني العقيم، وهو ما حدث بالفعل وكأن ود الرضي كان يرى بعيني زرقاء اليمامة.
بعد مجيء الأعيسر إلى الوزارة متحمساً للنجاح، اصطدم بواقع الوزارة الراكد الذي أهملته الدولة لسنوات طويلة، ولم يفلح في كسب “عتاة الحفارين والنجارين” الذين لا نظير لهم في العالم. فكان أول ما فاجأه، قبل أن يكمل عامه الأول، هو سحب مهمة الناطق الرسمي باسم الحكومة منه، ليصبح أول وزير إعلام ممنوع من الكلام، على الرغم من أن أهم أسباب اختياره للمنصب كان نجاحه في الدفاع القوي عن الجيش والحكومة في وقت تهيب فيه الآخرون.
بهذا القرار الغريب، فقد الأعيسر أهم أدوات نجاحه وأسباب وجوده، بل فقد ثقته في الآخرين. ولم يكتفِ المتربصون بذلك، بل أجهضوا أول قرار أصدره بشأن الملحقيات بطريقة مهينة لهيبته، ليدخل بعدها في حالة أشبه بـ “فوبيا” إصدار القرارات. والآن، هو الوزير الوحيد في “حكومة الأمل” الذي لم يصدر حتى اليوم قراراً واحداً، والذي لم يرفع أية توصية بتعيين أي قيادي جديد في مؤسساته المتكلسة لضخ دماء جديدة تتناسب مع خططه وتحديات المرحلة، ولا حتى داخل وزارته التي وُجد بها ثلاثة وكلاء، وهو أمر لم يحدث حتى في مجلس الوزراء الاتحادي بكامل مهامه.
وبعد “مهزلة الملحقيات” وحالة تهيبه من القرارات، لم يُصدر أي قرار بتعيين مديرين لقنوات الولايات بالتشاور مع الولاة بعد إيلولتها لوزارته، ولم يتخذ إجراءً بشأن من أحيلوا للمعاش منهم، كما أثقل على الأستاذ البزعي بتوالي التجديدات له بعد معاشه وبمشقة تنقله المستمر بين عطبرة وبورتسودان. ولم يرفع للرئيس أية توصية بتعيين مدير لقطاع التلفزيون بعد اعتذار عمار شيلا، وظل المجلس القومي للثقافة والفنون وبقية المؤسسات التابعة لوزارته شاغرة المناصب القيادية. وبين ضعف الإمكانات وتربص الكائدين وإحساسه بتجريده من سلطة القرار، تضاءلت طموحاته.
الأعيسر، وهو قوي الشخصية، ليس مثل فيصل محمد صالح -الوزير “القحاتي” الأسبق- الذي كان سلبياً أمام سطوة وكيله. فمشكلة الأعيسر تكمن في انهزامه النفسي السريع مما تفاجأ به ولم يكن يتوقعه، بعد أن جاء متحمساً من الفضاء الحر لينجز الكثير من موقعه الرسمي الجديد، لكنه وجد نفسه مكبلاً. وربما يكون قد فكّر كثيراً في الاستقالة، كما فعلها بقناة النيلين الرياضية أيامها، وقد ظنت الناس أنه بصددها حينما فاجأهم بالكتابة لأيام في صفحته باسم “المواطن” ثم تراجع تحت ضغط وطنيته التي جاءت به من الخارج، وهكذا يبدو الموقف.
اليوم، يقف الأعيسر على رأس وزارة بلا إمكانات بشرية ولا مالية، ووزيرها ممنوع من الكلام، ومساحته الوحيدة هي منبر “سونا” العريق الذي كان يُقام أسبوعياً في عهد الإنقاذ، وبالطريقة نفسها. والأعيسر، الذي تربطني به علاقة حميمة وتواصل مستمر، يقف أمام امتحان صعب لتجاوز مطباته، الأمر الذي يتطلب منه الهدوء وتغيير منهجه بمنهج جديد يعيد فيه ترتيب مؤسساته وأوراقه ومراجعة علاقاته مع الآخرين بشكل يعيد له سلطاته ويفتح له أبواب النجاح، أو يتخذ ما يراه مناسباً من قرار بتروٍ. فالنقد المكثف له جعله يخرج عن طوره وينشغل بالردود على ما يُكتب وما يقال، ويتعامل بردود الأفعال، مما يزيد من تعميق عداواته. ورجل الدولة في المجال العام عرضة للنقد، والنقد الموضوعي هو الساق الثاني للنجاح.
لذا، عليه أن يستفيد من البناء ولا يلتفت للهدام، وأن يمضي للأمام بمنهج جديد يتجاوز فيه “فوبيا القرارات” والنقد وخلق عداوات جديدة، ويجعل ردوده بالإنجاز والإنجاز وحده، فاستمراره في الموقع أو رحيله بيد الله، والمهم في التاريخ هو الأثر الذي يتركه في فترته والذي سيذكره به الناس عندما يرحل.


